كتب نبيه البرجي في جريدة الديار
اذا كان المستشرق الفرنسي غوستاف لوبون قد رأى في الشرق (الأوسط) “بوابتنا الى الله”، رأى فيه الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران “بوابتنا الى التاريخ” !
كان ميتران كثير الزهو بالتراث الفرنسي، لا سيما التراث الفلسفي، وهو أحد أبنائه. لذا تصور أنه أكثر ادراكاً من أي رئيس أميركي للبنية الايديولوجية للصراع العربي ـ الاسرائيلي. وكان يقول، قبل دخوله الى الاليزيه، “ان الفارق بين الثقافة الفرنسية والثقافة الأميركية الفارق بين كتاب “البؤساء” لفيكتور هوغو وزجاجة الكوكا كولا”.
ولدى انتخابه رئيساً للجمهورية، قال “ليس منطقياً أن نطلب اذناً من البيت الأبيض حتى حين نعطس”. آنذاك كان هو، كفيلسوف، في الاليزيه، وكان رونالد ريغان، كـ”نائب للسيد المسيح”، في البيت الأبيض. رئيسان، برأسين يابسين. احدهما يقول بـ”أميركا العظمى” التي تواجه “أمبراطورية الشر”، أي الاتحاد السوفياتي، والثاني يقول بـ”فرنسا العظمى” التي تواجه “أمبراطورية الكاوبوي”، أي الولايات المتحدة. من هنا دعا ميتران الى مؤتمر دولي حول الشرق الأوسط في مدينة البندقية.
للتو استعار توماس فريدمان عنوان رواية شهيرة للألماني توماس مان “موت في البندقية” ليكتب مقالة في “النيويورك تايمز” أدرك الرئيس الفرنسي فحواها على الفور. لا مكان لك، أو لغيرك، في تلك المنطقة. كما لو أن الأنوار أطفئت تلك الليلة في باريس. كان يفترض أن تطفأ في سائر أنحاء القارة، وفي ثلاثة أوقات متتالية. انزال النورماندي عام 1944، مشروع مارشال عام 1947، والخروج من السويس عام 1956.
الفيلسوف الفرنسي أندريه مالرو رأى أن الأنوار أطفئت في أرجاء الكرة الأرضية ليلة هيروشيما. هذا ما رآه أيضاً جورج كينان، صاحب نظرية “الاحتواء” (1946 )، ليقول ان روما استيقظت ثانية. هذه المرة بسراويل الجينز لا بالعباءات المزركشة. لعل الرجل الذي وضع خارطة الطريق للمسار الفلسفي للديبلوماسية الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية وقبل الحرب الباردة، لم يستذكر، في تلك اللحظة، ما آلت اليه الأمبراطورية الرومانية.
لا صوت في العالم يعلو على الصوت الأميركي. كل ديبلوماسية أخرى هي ديبلوماسية طواحين الهواء. الصينيون مثلما ينتهجون استراتيجية التسلل، ينتهجون ديبلوماسية التسلل، ربما الى حين بناء ترسانة عسكرية تضاهي الترسانة الأميركية. هل هذا ممكن حقاً؟
ماذا كان لجان ـ ايف لودريان بالشخصية البيروقراطية أن يفعل سوى أن يسأل “كيف للبنانيين الذين يصنعون هذا النوع من النبيذ أن يصنعوا هذا النوع من الأزمات؟”، بعدما كان الصحافي الفرنسي اريك رولو قد رأى في ساستنا “سكارى ما بعد منتصف الليل” ألذين لم يفعلوا شيئاً يذكر للخروج من منطق الحانة الى منطق الدولة.
أي مهزلة تلك حين يطرح الأميركيون أنفسهم كوسطاء، مع اعتقاد الكثيرين منهم أن وجودهم في الشرق الأوسط رهن بوجود (وبتفوق) اسرائيل ؟ لكن ما حدث، ويحدث، في كل من غزة ولبنان جعلهم في حالة من الضياع. كيف لم تتمكن الدولة العبرية، بالمساعدات العسكرية الهائلة، من سحق فصائل عسكرية، بالدراجات النارية لا بالدبابات ولا بالقاذفات، لا بل أن نتائج المواجهة كانت صادمة، بظهور تلك التصدعات البنيوية في “أمبراطورية يهوه”.
الأميركيون الذين باتوا أمام واقع مختلف، لن يتغيروا. رهانهم الآن على تفكك، وعلى هشاشة، الدول العربية المعنية، للقيام بدور الوسيط المزدوج (Doubleman )، وبأجنحة الملائكة التي يرى فيها الكثيرون في المنطقة أجنحة الأفاعي، حين لا يستطيعون التأثير، أو احتواء، رجل مثل نتنياهو، وهو يترنح بين الركام الفلسطيني والركام الاسرائيلي.
أتانا جوزيف بوريل الذي ذهب هباء كل صراخه من أجل غزة، لينصحنا بأن نستعمل عقولنا، بحدودها القصوى، في مواجهة من يستعملون غرائزهم ـ غرائز المجانين ـ بحدودها القصوى. أما آموس هوكشتين فقد خذله الاسرائيليون، وهو الضنين بمصير اسرائيل أكثر منهم، حين أبلغوه بأن وقف النار في غزة، ان حصل، لا يعني تلقائياً وقف النار في لبنان قبل تطبيق قرار مجلس الأمن 1701 وفق الرؤية الاسرائيلية، والا فليذهب لبنان، بكل أزماته، الى الجحيم..
رهاننا على الديبلوماسية الأميركية لكأنه الرهان على ديبلوماسية طواحين الهواء في مواجهة طواحين الدم. هل ننتظر اطفاء الأنوار في واشنطن مثلما أطفئت في روما ؟!