التَّخطيط الدَّقيق
سُنَّة من سُنن الهجرة النَّبويَّة

بقلم: المحامي عمر زين*

نعيش اليوم ونحن على أبواب سنةٍ هجريةٍ جديدةٍ نستذكر فيها هجرة سيِّد البشر ومعلِّمهم ومرشدهم لما فيه خيرهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة، صلوات الله عليه وعلى وآله وأصحابه وأزواجه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين. ولمَّا كان الأمر كذلك، فلا بدَّ للمسلمين جميعاً، في مشارق الأرض ومغاربها، أن يطَّبقوا في حياتهم اليوميَّة، وما أحوجنا إليه اليوم، ما سبق الهجرة من عملٍ، وهي السُّنَّة التَّي سنَّها لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم لتستقيم به حياتنا، مُعلِّماً الأمَّة ما يجب القيام به من أعمالٍ في سبيل تحقيق ذلك، ولن تتم لنا الاستقامة إلَّا به، أعني دقَّة التَّخطيط وحسن التَّدبير.
بعدما جاء الأمر بالهجرة، أعدَّ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم خطَّةً مُحكمةً من خمسة عشر بنداً، فاختار صاحباً له في السَّفر، فكان الخليفة الصدِّيق رضي الله عنه، وهو الصَّاحب الوفيُّ، وأوَّل من آمن به وبدعوته من الرِّجال بلا خلافٍ بين المسلمين في جميع مللهم ومذاهبهم، ذهب إليه في وقت الظَّهيرة وشدَّة الحرِّ، وهو وقتٌ في العادة تعتزل فيه النَّاس الخروج في الطُّرقات وتبقى فيه داخل بيوتها، خرج مُتلثِّماً عن وجهه حتَّى لا تلتفت إليه أعين كفار قريش، حال مصادفة خروج أيٌّ منهم، ذهب إليه ليُخبره بأمر الهجرة، فكلَّمه أوَّلاً على إنفرادٍ بينهما طالباً منه تجهيز ناقتيْن للسَّفر، وقرَّر النَّبيُّ أن يكون وقت الخروج ليلاً، كيف لا وقد جعل الله الليل لباساً، تستتر في ظلامه الكائنات كما يستر اللباس البدن، وأن لا يكون الانطلاق من بيته، بل من بيت الصدِّيق، ومن بابه الخلفي أيضاً لا الأمامي، وطلب من أمير المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه، وهو ابن عمِّه وأوَّل من آمن به وبدعوته من الشباب بلا خلاف بين المسلمين في جميع مللهم ومذاهبهم، طلب منه المبيت مكانه في فراشه، ليوهم كفار قريش أنَّ محمداً نائمٌ في بيته فيطمئنُّون أنَّه لن يفرَّ منهم، وليعيد لهم في اليوم التَّالي إنابةً عنه ودائعهم الّتي كانت أمانةً عنده صلَّى الله عليه وسلَّم، كيف لا وهو المعروف لديهم بالأمين، ثمَّ عيَّن عبد الله بن أريقط، خبير الصحراء ودليلها، والعارف بكل طرقاتها ورمالها، ليكون دليله من مكَّة المكرَّمة حفظها الله إلى المدينة المنوَّرة على ساكنها أفضل الصَّلاة وأتَّم السَّلام، ولمَّا كان من البديهي أنْ يفكر كفار قريش أنْ الوجهة شمالاً نحو المدينة، وأنَّهم سيلحقون به ويقتفون أثره ليقتلوه، كانت الخدعة أنْ يتَّجه باتِّجاهٍ مُعاكسٍ، باتِّحاه جنوب مكّة المكرَّمة يميناً، مُبتعداً خمسة أميالٍ، لا ميلٍ واحدٍ أو ميليْن أو حتَّى ثلاثةٍ، إتَّجه نحو طريقٍ وعرٍ، صعبٍ، مليءٍ بالأحجار الكبيرة والصغيرة، نحو جبل ثور، ليبيت في غورٍ فيه لمدة ثلاث ليالٍ، وهو المعروف بغور ثور، والحكمة من عددها، كونها فترةٌ كافيَّةٌ لاستسلام كفار قريش من السعي خلفه، وكلَّف عبد الله بن أبي بكر الصدِّيق وأخته أسماء رضي الله عنهم أنْ يأتياهما إلى الغار ليلاً أيضاً لا نهاراً لما سبق بيانه، أمَّا عبد الله فمهمَّته أن يأتيهما بأخبار قريش وتحرُّكاتهم، وأمَّا أسماء فتأتيهما بالطعام، وكلَّف عامر بن الفهيرة خادم أبي بكر الصدِّيق أن يرعى الغنم صباحاً من مكَّة إلى الغار ماحياً بالماشية آثار أقدام عبد الله وأسماء عن أعين قريش.
إنَّها مدرسة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، تُخرج النَّاس من الظُّلمات إلى النُّور، وما أحوج الأمَّة اليوم إلى العودة إليها، والعمل بسنَّتها، والإقتداء بصاحبها، الَّذي يعلم يقيناً وبالوحي الإلهي أن الله معه وناصره وحافظه من كيد الأعداء والكفار والمشركين وشرَّهم، وهذا ثابتٌ بالقرآن الكريم، ومع هذا كلِّه، يخطِّط بدقَّةٍ مُتناهيةٍ، وحكمةٍ بليغةٍ، وتدبيرٍ حسنٍ، وعملٍ مُتقنٍ، آخذاً بأفضل الأسباب، مُعتمداً ومُتوكلاً على مُسبب الأسباب، تعليماً للأمَّة كلِّها كيف تجب أن تكون عليه الأمور.
في هذه المناسبة الجليلة، نسأل الله ربَّ العرش العظيم أنْ يعيدها علينا وعلى جميع المسلمين والمؤمنين بالأمن والأمان والنصر على الأعداء، وأنْ يلهمنا العودة إلى سُنَّة نبيِّه ومدرسته صلَّى الله عليه وسلَّم، فنخطِّط بدقَّةٍ مُتناهيةٍ قبل الشُّروع بالعمل، ثمَّ نعمل بناءً على ما خطَّطنا له، عسى أن نحافظ بذلك على وطننا العربي والإسلامي عموماً ولبناننا العزيز خصوصاً من كيد الأعداء الطامعين، وأن نسترد به أقصانا، ونحرِّر فلسطيننا الحبيبة من أيدي الصهاينة المجرمين أعداء الإنسانيَة والبشريَّة والدِّين الحنيف، فكلَّ عام وأنتم بخيرٍ.

  • الأمين العام السابق لاتحاد المحامين العرب
  • المنسق العام لشبكة الأمان للسلم الأهلي

عن mediasolutionslb

شاهد أيضاً

رسائل «مرجانة» العاجلة تغزو الحدود… هل تنسحب إسرائيل الثلاثاء؟

كتب محمد حمية في صحيفة الجمهورية على مسافة أسبوع من نهاية المُهلة الممدّدة يكتنف الغموض …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.