
كتب نبيه البرجي في صحيفة الديار
ذات يوم سألت الرئيس نجيب ميقاتي , وكنا في أحد شوارع دمشق , ماذا تعني لك هذه المدينة ؟ أجابني “لكأنها بيتي” . لبنانيون كثيرون ويعشقون دمشق . لا يعنينا من يكون على رأس الدولة أو على رأس الاستخبارات , أكان بتكشيرة تأبط شراً أم كان برقة انجيلينا جولي . أمس كان في دمشق . تراه لاحظ أن دمشق ما زالت دمشق أم باتت أي شيء آخر ؟
الصديق القديم لبشار الأسد قاطع الرئيس السوري (الهارب) , حتى بعدما استقر الوضع في سوريا , ولو فوق الجمر . غضب عربي , ودولي على الأسد الذي تعرّض لأبشع حرب في التاريخ . مقاتلون آتون من الكهوف , أو من الأقبية , ينتمون الى عشرات الجنسيات , والى عشرات الايديولوجيات , من أجل نقل سوريا من ديكتاتورية كاليغولا الى ديمقراطية أفلاطون …
في لبنان , اعتدنا على كل اشكال الزبائينية . الكاميرات لم تترك بوابة زنزانة الا وطرقتها , لم تترك حائطاً عليه آثار كلمات ضائعة الا والتقطت صوراً له , حتى لتحسب أن الجحيم هناك , وأن غوانتنامو على شاكلة البيفرلي هيلز . مغالاة هائلة في الوصف كما لو أننا الآن لسنا في ذروة التعبئة الغرائزية لاستعادة مشاهد مروعة من الحرب الأهلية . قطع الرؤوس بالفؤوس , عرض الجماجم على عربات الخضار , اخفاء جثث الضحايا في آبار الكلس كي تتحلل , وتذوب هوية أصحابها .
فعلنا بأنفسنا ما لم تفعله الأجهزة في سوريا , وها نحن نهلل لمن استولوا على السلطة , كما لو أنهم لم يدفنوا ضحاياهم وهم أحياء , وكما لو أنهم لم يعرّوا رجال الدين ويجلدوهم أمام الملأ , وكما لو أنهم لم يفرغوا رصاص بنادقهم الرشاشة في رؤوس جنودنا , وعلى أرضنا . وها أن المشهد يتكرر الآن . لسنا قطعاً ضد الاقتصاص من زبانية الاستخبارات والمعتقلات . لكن المسائل تذهب الى أبشع أنواع القتل , والتنكيل , بفئات دون أخرى , وبمناطق دون أخرى .
دائما تحت شعار “شريعة الله” . هل هذه حقا شريعة الله , بالركل بالأقدام , وبالدوس على الرؤوس , أمام عائلات مشتبه بهم فقط لانتمائهم الديني أو المذهبي . ليبقى السؤال لماذا تجرد السلطة الجديدة بعض المناطق حتى من سكاكين المطبخ , ولا تتجرأ على المس بفئات أخرى , وسواء كانت هذه الفئات تحت الرعاية الاسرائيلية أم تحت الرعاية الأميركية ؟ هذا لا يمكن أن يكون الاسلام القرآني . الاسلام التوراتي , بذلك الشبق المروع , وحيث الأيدي التي تتقيأ الدم . في الكوميديا الالهية لدانتي أنوف تخرج منها النيران …
اذاً , الرئيس ميقاتي في دمشق . هذا منطق الأشياء , وهذه قوة الأشياء . سوريا شقيقتنا , والسوريون أشقاؤنا . يلجأون الينا , ونلجأ اليهم , في أوقات المحن . مثلما سوريا حاضرة العرب والعروبة , حاضنة العرب والعروبة , مهما واجهت من أشكال غرائبية , ومهما مرت في ظروف غرائبية . هي بوابة لبنان الى الداخل العربي . الآن , سوريا في وضع انتقالي . ما يصدر من كلام عن قائد الادارة الجديدة هو كلام رجل دولة . لا يعنينا ماضيه . ولكن ما يجري على الأرض من تسيّب أمني , وحيث الترويع العشوائي , والملاحقة العشوائية , لا يمت بصلة الى سلطة قالت بالعدالة , والمساواة , كما بالتكافؤ , وبالتنوع , ووحدة الأرض ووحدة الشعب .
حتى أن معارضي “النظام المخلوع” , وهم يحملون آراء مختلفة ورؤى مختلفة , يبدون توجسهم من بعض الظواهر التي تنذر بانفجارات قد تفضي الى تنفيذ المخطط الاسرائيلي بتفكيك سوريا الى دويلات طائفية , ومناطقية , واثنية . من يحول , وفي الظروف الراهنة , دون تنفيذ هذا المخطط الجاثم على أبواب دمشق ؟ البلاد ممزقة . الترسانة العسكرية مدمرة . الصراع على أشده , حتى بين الحلفاء , حول من يقود سوريا .
رجب طيب اردوغان الذي تولى تنفيذ السيناريو , وقد أتاح له ذلك العودة الى محاولة تحقيق حلمه باحياء السلطنة العثمانية , بات في عنق (أم في قعر) الزجاجة . هل يتجرأ على التدخل العسكري للحيلولة دون بنيامين نتنياهو واستباحة الأراضي السورية , والأجواء السورية ؟ هو الآن يلعب بالروس , ويلعب بالأميركيين , بنبرة “سلطان البر وخاقان البحر” , يخشى أن يدافع عن ولايته العثمانية التي تفتح أمامه أبواباً كثيرة , ان في المنطقة أو خارج المنطقة .
بالتأكيد , نحن مع علاقات وثيقة , ومتوازنة , مع الشقيقة سوريا . ولكن أين هي الخريطة السورية الآن , وقد توزعت بين الأتراك والأميركيين والاسرائيليين , وحتى الروس موجودون (دون خجل) في قاعدة حميميم الجوية , وفي قاعدة طرطوس البحرية ؟ هذا اذا لم نسأل , أين هي القنيطرة , وأين هي السويداء الآن , وبيد من , وتحت وصاية من ؟ كذلك الأمر بالنسبة الى درعا , وغداً الى مناطق أخرى وأخرى ..
ذوبان في الحالة التركية أم في الحالة الاسرائيلية , حين نجد أنفسنا عند هذا الخيار الأبوكاليبتي … اما اسطنبول أو أوشليم ؟ لماذا لا نقول اما القاهرة , أو الرياض , أو بغداد ؟
حتماً بنيامين نتنياهو لن يترك رأس رجب طيب اردوغان على كتفيه . المنطقة أمام التسونامي الآتي , على عربة أميركية , من أقاصي التوراة . هكذا ضعنا , وهكذا نضيع , بين قبعة الكاوبوي وقلنسوة الحاخام . الطربوش العثماني في مهب الريح …